فصل: ومن باب صدقة الزرع:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم السنن



.ومن باب أين تُصَدق الأموال:

قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن أبي عدي عن ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا جَلَبَ ولا جَنَبَ ولا تؤخذ صدقاتهم إلاّ في دورهم».
قلت: الجلب يفسر تفسيرين يقال أنه في رهان الخيل وهو أن يجلب عليها عند الركض، ويقال هو في الماشية. يقول لا ينبغي للمصدق أن يقيم بموضع ثم يرسل إلى أهل المياه فيجلبوا إليه مواشيهم فيصدقها ولكن ليأتهم على مياههم حتى يصدقهم هناك.
وأما الجنب فتفسيره أيضًا على وجهين: أحدهما أن يكون في الصدقة وهو أن أصحاب الأموال لا يجنبون على مواضعهم أي لا يبعدون عنها حتى يحتاج المصدق إلى أن يتبعهم ويمعن في طلبهم.
وقيل إن الجنب في الرهان وهو أن يركب فرسا فبركضه وقد أجنب معه فرسا آخر فإذا قارب الغاية ركبه وهو جام فيسبق صاحبه.

.ومن باب صدقة الزرع:

قال أبو داود: حدثنا هارون بن سعيد بن الهيثم الأيلي حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلا العشر وفيما سقي بالسواني أو النضح نصف العشر».
قال أبو داود البعل ما شرب بعروقه ولم يتعن في سقيه، وكذلك قال أبو عبيد والسواني جمع السانية وهي البعير الذي يسنى عليه أي يستقى. والنضح مثله وهو السقي بالرشاء وهذا مما تقدم بيانه وأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصدقة ما خفت مؤنته وكثرت منفعته على التضعيف توسعة على الفقراء وجعل ما كثرت مؤنته على التنصيف رفقا بأرباب الأموال.
قلت: وأن الزرع الذي يسقى بالقنى فالقياس على هذا أن ينظر فإن كان لا مؤنة فيها أكثر من مؤنة الحفر الأول وكسحها في بعض الأوقات فسبيلها سبيل النهر والسيح في وجوب العشر فيها وإن كان تكثر مؤنتها بأن لا تزال تتداعى وتنهار ويكثر نضوب مائها فيحتاج إلى استحداث حفر فسبيلها سبيل ماء الآبار التي تنزح منها بالسواني والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا ابن وهب عن سليمان، يَعني ابن بلال عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فقال خذ الحب من الحب والشاة من الغنم والبعير من الإبل والبقرة من البقر».
قلت: فيه من الفقه أن الزكاة إنما تخرج من أعيان الأموال وأجناسها ولا يجوز صرف الواجب منها إلى القِيَم.
وفيه دليل على أن من وجبت عليه شاة في خمس من الإبل فأعطى بعيرًا منها فإنه يقبل منه. وقال داود لا يقبل منه ذلك ويكلف الشاة لأنه خلاف المفروض عليه وحكي ذلك عن مالك أيضًا.
قلت: الأصل أن الواجب عليه في كل جنس من أجناس الأموال جزء منه إلاّ أن الضرورة دعت في هذا إلى العدول عن الأصل إلى غيره وذلك لأمرين أحدهما أن الزكاة أمرها مبني على أخذ القليل من الكثير فلو كان البعير مأخوذا من الخمس لكان خمس المال مأخوذا وهو كثير وفي ذلك إجحاف بأرباب الأموال، والمعنى الآخر أنه لو جعل فيها جزء من البعير لأدى ذلك إلى سوء المشاركة باختلاف الأيدي على الشخص الواحد فعدل عنه إلى الشاة إرفاقا للمعطي والآخذ والله أعلم، فإذا أعطى رب المال بعيرا منها فقد تبرع بالزيادة على الواجب وكان عليه مأجورا إن شاء الله.

.ومن باب زكاة العسل:

قال أبو داود: حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني حدثنا موسى بن أعين عن عمرو بن الحارث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال جاء «هلال أحد بني مُتعان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشور نحل له وسأله أن يحمي واديا يقال له سَلَبة فحمى له رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الوادي فلما ولي عمر بن الخطاب كتب سفيان بن وهب إلى عمر يسأل عن ذلك فكتب عمر إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله من عشور نحله فاحم له سلبة وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من شاء».
قلت: في هذا دليل على أن الصدقة غير واجبة في العسل وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذ العشر من هلال المُتعي إذ كان قد جاء بها متطوعا وحمى له الوادي إرفاقا ومعونة له بدل ما أخذ منه وعقل عمر بن الخطاب المعنى في ذلك فكتب إلى عامله يأمره بأن يحمي له الوادي إن أدى إليه العشر وإلا فلا ولو كان سبيله سبيل الصدقات الواجبة في الأموال لم يخيره في ذلك وكيف يجوز عليه ذلك مع قتاله في كافة الصحابة مع أبي بكر ما نعي الزكاة.
وممن لم ير فيه الصدقة مالك وابن أبي ليلى والثوري والشافعي وأبو ثور. وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز وأوجبها مكحول والزهري والأوزاعي وأصحاب الرأي. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه في العسل العشر.
وقوله حمى له الوادي، معناه أن النحل إنما ترعى من البقل والنبات أنوارها وما رخُص ونعُم منها فإذا حميت مراعيها أقامت فيها وأقبلت تعسِل في الخلايا كثرت منافع أصحابها وإذا شوركت في تلك المراعي نفرت عن تلك المواضع وأمعنت في طلب المرعى فيكون ريعها حينئذٍ أقل.
وقد يحتمل ذلك وجها آخر وهو أن يكون ذلك بأن يحمى لهم الوادي الذي يُعسَّل فيه فلا يترك أحد أن يتعرض للعسل فيشتاره وذلك أن سبيل العسل سبيل المياه والمعادن والصيود وليس لأحد عليها ملك وإنما تملك باليد لمن سبق إليها فإذا حمى له الوادي ومنع الناس منه حتى يجتازه هؤلاء القوم وجب عليهم بحق الحماية إخراج العشر منه، ويدل على صحة هذا التأويل قوله: «فإنما هو ذباب غيث يأكله من شاء» ومعنى هذا الكلام أن النحل إنما تتبع مواقع الغيث وحيث يكثر المرعى وذلك شأن الذطب لأنها تألف الغياض والمكان المعشب.

.ومن باب الخرص:

قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن مسعود عن سهل بن أبي حَثْمة قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع».
قال أبو داود الخارص يدع الثلث للخُرْفة وكذا قال يحيى بن القطان.
قلت: في هذا الحديث إثبات الخرص والعمل به وهو قول عامة أهل العلم إلاّ ما روي عن الشعبي أنه قال الخرص بدعة وأنكر أصحاب الرأي الخرص.
وقال بعضهم إنما كان ذلك الخرص تخويفًا للأكَرَة لئلا يخونوا فأما أن يلزم به حكم فلا وذلك أنه ظن وتخمين وفيه غرر وإنما كان جوازه قبل تحريم الربا والقمار.
قلت: العمل بالخرص ثابت وتحريم الربا والقمار والميسر متقدم، وبقي الخرص يعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم طول عمره وعمل به أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في زمانهما وعامة الصحابة على تجويزه والعمل به لم يذكر عن أحد منهم فيه خلاف. فأما قولهم أنه ظن وتخمين فليس كذلك بل هو اجتهاد في معرفة مقدار الثمار وإدراكه بالخرص الذي هو نوع من المقادير والمعايير كما يعلم ذلك بالمكاييل والموازين وإن كان بعضها أحصر من بعض وإنما هذا كإباحته الحكم بالاجتهاد عند عدم النص مع كونه معرضا للخطأ. وفي معناه تقويم المتعلقات من طريق الاجتهاد. وباب الحكم بالظاهر باب واسع لا ينكره عالم.
قلت: وقد ذهب بعض العلماء في تأويل قوله دعوا الثلث أو الربع إلى أنه متروك لهم من عرض المال توسعة عليهم فلو أخذوا باستيفاء الحق كله لأضر ذلك بهم. وقد يكون منها السقاطة وينتابها الطير ويخترفها الناس للأكل فترك لهم الربع توسعة عليهم وكان عمر بن الخطاب يأمر الخراص بذلك.
ويقول عمر قال أحمد وإسحاق. وذهب غير هؤلاء إلى أنه لا يترك لهم شيئا شائعا في جملة النخل بل يفرد لهم نخلات معدودة قد علم مقدار ثمرها بالخرص.

.ومن باب خرص العنب:

قال أبو داود: حدثنا عبد العزيز بن السري الناقط حدثنا بشر بن منصور عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسِيد قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيبا كما يؤخذ صدقة النخل تمرا».
قلت: إنما يخرص من الثمر ما يحيط به البصر بارزا لا يحول دونه حائل ولا يخفى موضعه في خلال ورق الشجر، والعنب في هذا المعنى كثمر النخل.
فأما سائر الثمار فإنها لا يجري فيها الخرص لأن هذا المعنى فيها معدوم.
وفائدة الخرص ومعناه أن الفقراء شركاء أرباب الأموال في الثمر فلو منع أرباب المال من حقوقهم ومن الانتفاع بها إلى أن تبلغ الثمرة غاية جفافها لأضر ذلك بهم ولو انبسطت أيديهم فيها لأخل ذلك بحصة الفقراء منها إذ ليس مع كل أحد من التقية ما تقع به الوثيقة في أداء الأمانة فوضعت الشريعة هذا العيار ليتوصل به أرباب الأموال إلى الانتفاع ويحفظ على المساكين حقوقهم. وإنما يفعل ذلك عند أول وقت بدو صلاحها قبل أن يؤكل ويستهلك ليعلم حصة الصدقة منها فيخرج بعد الجفاف بقدرها تمرا وزبيبا.
وفيه دليل على صحة القسمة في الثمار بين الشركاء بالخرص لأنه إذا صح أن يكون عيارا في إفراز حصة الفقراء من حصة أرباب الأموال كان كذلك عيارا في إفراز حصص الشركاء.
قلت: ولم يختلف أحد من العلماء في وجوب الصدقة في التمر والزبيب.
واختلفوا في وجوب الصدقة في الزيتون، فقال ابن أبي ليلى لا زكاة فيه لأنه أُدْم غير مأكول بنفسه وهو آخر قولي الشافعي. وأوجبها أصحاب الرأي وهو قول مالك والأوزاعي والثوري إلاّ أنهم اختلفوا في كيفية ما يؤخذ من الواجب فيه فقال أصحاب الرأي يؤخذ من ثمرته العشر أو نصف العشر.
وقال الأوزاعي يؤخذ العشر منه بعد أن يعصر زيتا صافيًا.
وأما الحبوب فقد اختلف العلماء فيها فقال أصحاب الرأي تجب الصدقة في الحبوب ما كان مقتاتًا منها أو غير مقتات.
وقال الشافعي كل ما جمع من الحبوب أن يزرعه الآدميون وييبس ويدخر ويقتات ففيه الصدقة. فأما ما يتفكه به أو ما يؤتدم به أو يتداوى به فلا شيء فيه.

.ومن باب زكاة الفطر:

قال أبو داود: حدثنا محمود بن خالد الدمشقي وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي قالا: حَدَّثنا مروان هو ابن محمد قال عبد الله حدثنا أبو يزيد الخولاني وكان شيخ صدق وكان ابن وهب يروي عنه حدثنا سيار بن عبد الرحمن هو الصدفي عن عكرمة عن ابن عباس قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات».
قوله: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر فيه بيان أن صدقة الفطر فرض واجب» كافتراض الزكوات الواجبة في الأموال.
وفيه أن ما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما فرضه الله تعالى في كتابه لأن طاعته صادرة عن طاعته.
وقد قال بفرضية زكاة الفطر ووجوبها عامة أهل العلم غير أن بعضهم تعلق فيها بخبر مروي عن قيس بن سعد أنه قال: «أمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا بها ولم ينهنا فنحن نفعله».
قلت: وهذا لا يدل على زوال وجوبها وذلك أن الزيادة في جنس العبادة لا توجب نسخ الأصل المزيد عليه غير أن محل ساتر الزكوات الأموال ومحل زكاة الفطر الرقاب. وقد عللت بأنها طهرة للصائم من الرفث واللغو فهي واجبة على كل صائم غني ذي جدة ويسر أو فقير يجدها فضلا عن قوته إذ كان وجوبها عليه بعلة التطهير وكل من الصائمين محتاجون إليها، فإذا اشتركوا في العلة اشتركوا في الوجوب.
ويشبه أن يكون إنما ذهب من رأى إسقاطها عن الأطفال إلى هذا لأنهم إذا كانوا لا يلزمهم الصيام فلا يلزمهم طهرة الصيام. فأما أكثر أهل العلم فقد أوجبوها على الأطفال إيجابها على البالغين.
وأما وقت إخراجها فالسنة أن تخرج قبل الصلاة، وهو قول عامة أهل العلم وقد رخص ابن سيرين والنخعي في إخراجها بعد يوم الفطر. وقال أحمد أرجو أن لا يكون بذلك بأس.
وقال بعض أهل العلم تأخير إخراجها عن وقتها من يوم الفطر كتأخير إخراج زكاة الأموال عن ميقاتها فمن أخرها كان آثما إلاّ من عذر.

.ومن باب كم يؤدى في صدقة الفطر:

قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين».
قال أبو داود: حدثنا يحيى بن محمد بن السكن حدثنا محمد بن جَهضم حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمر بن نافع عن أبيه عن عبد الله بن عمر بمعناه وزادوا «الصغير والكبير».
قلت: فيه من الفقه أن وجوب زكاة الفطر وجوب فرض لا وجوب استحباب وفيه بيان أنها واجبة على الصغير والكبير.
وفيه دليل على أنها واجبة على من ملك مائتي درهم أو لم يملكها.
وقد اختلف أهل العلم في ذلك فقال أصحاب الرأي من حلت له الصدقة فلا تجب عليه صدقة الفطر والحد في ذلك عندهم ملك المائتين.
وقال مالك بن أنس صدقة الفطر على الغني والفقير؛ وهو قول الشعبي وابن سيرين وعطاء والزهري.
وقال الشافعي إذا فضل عن قوت المرء وقوت أهله مقدار ما يؤدي عن زكاة الفطر وجبت عليه، وكذلك قال ابن المبارك وأحمد بن حنبل.
واختلفوا في وجوبها على الصغير الطفل فقال أكثر الفقهاء هي واجبة على الصغير وجوبها على الكبير. وقال محمد بن الحسن لا تجب صدقة الفطر في مال الصغير يتيما أو غير يتيم. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال صدقة الفطر إنما هي على من أطاق الصوم.
وقوله: «على كل حر أو عبد» ظاهره إلزام العبد نفسه إلاّ أنه لا ملك له فيلزم السيد إخراجه عنه. وقال داود هو لازم للعبد وعلى سيده أن يمكنه من الكسب حتى يكسب فيؤديه.
وفيه دليل على أنه يزكي عن عبيده المسلمين كانوا للتجارة أو للخدمة لأن عموم اللفظ يشملهم كلهم. وفي دلالته وجوبها على الصغير منهم والكبير والحاضر والغائب، وكذلك الآبق منهم والمرهون والمغصوب وفي عبيد عبيده وفي كل من أضيف إلى ملكه.
وفيه دليل على أنه لا يزكي عن عبيده الكفار لقول من المسلمين فقيده بشرط الإسلام فدل أن عبده الذمي لا يلزمه وهو قول مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وروي ذلك عن الحسن البصري.
وقال الثوري وأصحاب الرأي يؤدي عن العبد الذمي وهو قول عطاء والنخعي.
وفيه دليل على أن إخراج أقل من صاع لا يجوز وذلك أنه ذكر في الخبر التمر والشعير وهما قوت أهل ذلك الزمان في ذلك المكان فقياس ما تقتاتونه من البر وغيره من الأقوات أنه لا يجزي منه أقل من صاع.
وقد اختلف الناس في هذا فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق لا يجزيه من البر أقل من صاع، وروي ذلك عن الحسن وجابر بن زيد.
وقال أصحاب الرأي والثوري يجزيه نصف صاع من بر، فأما سائر الحبوب فلا يجزيه أقل من صاع غير أن أبا حنيفة قال يجزيه من الزبيب نصف صاع كالقمح.
وروى جماعة من الصحابة إخراج نصف صاع من البر.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا داود بن قيس عن عياض بن عبد الله، عَن أبي سعيد الخدري قال: «كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر عن كل صغير وكبير حر أو مملوك صاعا من طعام أو صاعا من أقط أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من زبيب فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية حاجا أو معتمرا فكلم الناس على المنبر فكان فيما كلم به الناس أن قال: إني أرى مُدَّين من سَمْراء الشام يعدل صاعا من تمر فأخذ الناس بذلك. قال أبو سعيد: فأما أنا فلا أزال أخرجه أبدا ما عشت».
قال أبو داود ورواه بعضهم عن ابن عُلية عن ابن إسحاق عن عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن حكيم بن حزام عن عياض، عَن أبي سعيد وقال أو صاعا من حنطة وليس بمحفوظ.
قلت: قوله: «صاعا من طعام» زعم بعض أهل العلم أن الطعام عندهم اسم خاص للبر قال ويدل على صحة ما تأولناه من ذلك أنه قد ذكر في الخبر الأقط والشعير والتمر والزبيب وهي أقواتهم التي كانوا يقتاتونها في الحضر والبدو ولم يذكر الحنطة وكانت أغلاها وأفضلها كلها فلولا أنه أرادها بقوله: «صاعا من طعام» لكان يجزي ذكرها عند التفصيل كما جرى ذكر غيرها من سائر الأقوات.
وزعم غيره أن هذا جملة قد فصلت والتفصيل لا يخالف الجملة، وإنما قال في أول الحديث صاعا من طعام ثم فصله فقال صاعا من أقط أو صاعا من شعير أو كذا أو كذا واسم الطعام شامل لجميع ذلك. وإنما كان يجوز ما قاله من تأول الطعام على البر خاصة لو كان قال صاعا من طعام أو صاعا من كذا بحرف أو الفاصلة بين الشيئين ثم نسق عليه ما بعده شيئا شيئا.
قلت: قد رواه غير أبي داود بحرف أو الفاصلة من أول الحديث إلى آخره حدثنا الأصم حدثنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا أنس بن عياض عن داود بن قيس سمع عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح يقول إن أبا سعيد الخدري قال: «كنا نخرج في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من زبيب أو صاعا من أقط أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر» وذكر الحديث.
قلت: إن صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أن يخرج صاع من قمح فأخرج عنه نصف صاع على سبيل البدل على ما رواه معاوية فإنه لا يجزئ لما فيه من الربا لأن حقيقته بيع صاع قمح بنصف صاع منه، ولكنه إذا خرج نصف صاع منه جزا عن نصف الحق وعليه أن يخرج النصف الآخر.
وفي الحديث دليل على أن إخراج القيمة لا يجوز وذلك لأنه ذكر أشياء مختلفة القيم فدل أن المراد بها الأعيان لا قيمتها.
وفيه دليل على أنه لا يجوز إخراج الدقيق والسويق ونحوهما لأن هذه الحبوب كلها أموال كاملة المنفعة لم يذهب من منافعها شيء، وهذا المعنى غير موجود في الدقيق والسويق ونحوهما.
قال أبو داود: حدثنا مسدد وسليمان بن داود العتكي قالا: حَدَّثنا حماد بن زيد عن النعمان بن راشد عن الزهري عن ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صاع من بر أو قمح عن كل اثنين صغير أو كبير حر أو عبد ذكر أو أنثى أما غنيكم فيزكيه الله وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطاه».
قلت: في هذا حجة لمذهب من أجاز نصف الصاع من البر.
وفيه دليل على أنها واجبة على الطفل كوجوبها على البالغ. وفيه بيان أنها تلزم الفقير إذا وجد ما يؤديه، ألا تراه يقول وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطاه فقد أوجب عليه أن يؤديها عن نفسه مع إجازته له أن يأخذ صدقة غيره.
وفي قوله: «ذكر أو أنثى» دليل لمن أسقط صدقة الزوجة عن الزوج لأنه في الظاهر إيجاب على المرأة فلا يزول الفرض عنها إلاّ بدليل، وهو مذهب أصحاب الرأي وسفيان الثوري.
وقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه يخرج الزوج عن زوجته لأنه يمونها. وقد يروى فيه عن جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عمن تمونون».
قلت: إن صح قوله: «عمن تمونون» وإلا فلا يلزمه ذلك عن زوجته ولو كان لها عبيد كان عليها إخراج الصدقة عنهم فلأن يلزمها إخراجها عن نفسها أولى.